شارك الخبر
كتب/علي صالح الخلاقي
سلام يا شامخ على الشُمَّخ شَمَخ
(العُرّ) ذي لا ناظَرَه (حِلْيَن) يدوخ
بعض الرواسي صامده ما تشترخ
لا اهتَزَّت الأرياح زادتها شموخ
يا شيخ قاسم بحسبك صاحب وأخ
واعتز بك بين القبايل والشيوخ
هذا الزامل في مدح صاحب المناقب الحميدة والسيرة العطرة، المناضل الوطني الجسور قاسم صالح الجانحي، الذي يعد أحد أبطال هذا الزمان، وفرسانه الميامين الشجعان، ممن يُشار إليهم بالبنان، فقد صال وجال في أكثر من ميدان، وترك في كل زاوية ومكان، بصمات لا تمحوها الأزمان، وتخلده في الذاكرة والوجدان..
ومن عرف أو رافق أو عايش هذا الجبل الشامخ، يدرك أن الشاعر حسين بن دينيش (الحنطري) الذي أبدع هذه الأبيات كان محقاً في مدحه، بل وأجاد، حينما شبهه بـ(شامخ على الشُمّخ شَمَخ)..فقد كان شامخاً بشهامته وبكرم نفسه وبشجاعته ومواقفه الوطنية المخلصة وبخصاله النبيلة وسيرته الزاخرة بالعطاء في خدمة وطنه وشعبه، فاستحق بجدارة هذا الوصف من قبل الشاعر، الذي أهداه هذا الزامل في حياته عام 2001م.
وبما أن ذكرى وفاته الخامسة قد مرت في الثامن من هذا الشهر، الذي تحل علينا فيه ذكرى عيد الاستقلال الوطني المجيد في 30نوفمبر 1967م، الذي كان أحد صناعه مع رعيل المناضلين الأوائل، حري بنا – بل ويلزمنا الوفاء- أن نتعرف على ملامح من سيرته المشرفة ومآثره النضالية والاجتماعية.. حيث كان في صدارة صفوف رعيل المناضلين الأوائل ممن خاضوا غمار الثورة المسلحة ضد الاستعمار البريطاني حتى رحيله عن بلادنا، ثم أسهم بقسطه في بناء الدولة الوطنية، وكان أحد رجالاتها الأوفياء والمخلصين حتى آخر لحظة من حياته.
ينتمي الفقيد إلى أسرة عريقة ونبيلة في مكتب الحضارم -يافع، حيث ولد عام 1945م وعاش طفولته في قرية (الجانحة) الشامخة التي تجنح كالسفينة في قمة جبل يحمل اسمها، تطل من عليائه على وادي حطيب الخصيب، الشهير بزراعة أجود أنواع البُن. وفي أحضان هذه القرية الجميلة، نشأ وترعرع في كنف والده، وتشرب وتشبع بالقيم الاجتماعية، ومارس مع أترابه ألعاب الطفولة التقليدية، والتحق في الكُتّاب (المعلامة) التي كانت الشكل الوحيد للتعليم حينها، يتلقى فيها الأطفال تعليمهم الأولي وحفظ القرآن أو أجزاء منه. وفي سن العاشرة أرسله والده إلى عدن ليلتحق بشقيقه الأكبر عبدالرب صالح الجانحي الذي كان حينها يقيم ويعيش مع أسرته في عدن ويعمل في شرطة المرور، وكان من الشخصيات الاجتماعية المعروفة والمحبوبة، ولا يبخل بتقديم خدماته لكل من يلجأ إليه من أهله وأقربائه من قرية الجانحة أو من مكتب الحضارم ومن يافع بشكل عام ومساعدتهم للحصول على العمل أو التعليم، وظل بيته ملاذاً ومأوى للكثيرين خلال فترة علاجهم أو زياراتهم إلى عدن بحثاً عن عمل.
وفي بيت شقيقه عبدالرب وجد الفتى الصغير قاسم كل الرعاية والاهتمام، وألحقه بإحدى المدارس حيث تسنى له الحصول على تعليمه الأساسي.. وفي عدن اشتد عوده وبلغ مبلغ الشباب وتفتح ونضج وعيه الوطني، من خلال تتبعه للتطورات السياسية، وتأثره مع أبناء جيله بالوعي التحرري المناهض للاستعمار الذي أججته الثورة المصرية والزعيم عبدالناصر، وحينما رأى فيه أعضاء الجبهة القومية ممن تربطه بهم علاقة صداقه نباهته وحماسه ووعيه الوطني للخلاص من الاستعمار تم تأطيره في تنظيم الجبهة القومية، وتحديداً في القطاع الفدائي، وكانت تربطه علاقة صداقة قوية بالشهيد عبدالرحمن قحطان الحوثري، الذي سُمِّيت أول إعدادية وأول ثانوية في لبعوس-يافع باسمه، وكانت جزءاً من علاقتهم بمجموعة القطاع الفدائي للجبهة القومية في عدن وبقية شباب الجبهة القومية في القطاعات الأخرى، ومن رفاقه عبدالله محسن بن جبر ومحسن عاطف وآخرين، وأسهم كأحد أبطال التحرير في الكفاح المسلح عبر الحلقات السرية والعمل الفدائي في عدن حتى فجر الاستقلال الوطني الذي تحقق في 30نوفمبر 1967م.
بعد الاستقلال الوطني الذي شهد وعاش فرحة يوم إعلانه، شمر عن ساعديه وواصل نضاله في بناء الدولة الوطنية الوليدة، حيث التحق مع غيره من المناضلين في المؤسسة الأمنية بوزارة الداخلية، وكان مثالاً لرجل الأمن المخلص. وخلال سنوات خدمته الأولى في وزارة الداخلية حصل على دورات تأهيلية داخلية وتدرج في الرتب العسكرية حتى رتبة ملازم.
وعند تأسيس جهاز أمن الدولة كان ضمن أفضل الضباط الذين وقع عليهم الاختيار لتأسيس هذا الجهاز الأمني الهام، فانتقل من وزارة الداخلية ليرتبط بأمن الدولة متدرجاً في الرُّتب العسكرية ويتبوأً العديد من المناصب والمسئوليات التي أبلي فيها بلاءً حسناً، لا سيما بعد حصوله على تأهيل عسكري وأمني في كل من كوبا خلال عامي 1977-1978م مع 14 ضابطاً من زملائه في أمن الدولة، نذكر منهم: مهدي صالح الكازمي، ناصر صالح الكازمي، قاسم صالح الجانحي، محمد صالح أبو الهول، صالح لزنم، سالم صالح أبين، ومحسن أحمد المهرة وعبدالله موسى وآخرين.
وهكذا جمع الجانحي بين الخبرة والممارسة الميدانية في ميادين النضال وبين معارفه العسكرية وتأهيله الأمني فكان من بين القادة المشهود لهم في تحقيق النجاحات الأمنية وفي صلابة مواقفه الشجاعة سواء في مواجهة الاعتداءات الخارجية أو في حماية أمن الوطن والمواطن في كل المنعطفات الهامة، وقد أوكلت إليه العديد من المهام الأمنية الصعبة التي أثبت من خلالها قدراته العسكرية والأمنية كرجل دولة من الطراز الرفيع. ومن بين المناصب والمسئوليات التي تحملها بجدارة، نائب مدير الوحدة المسلحة التابعة لجهاز أمن الدولة، وهي من أهم وحدات أمن الدولة. وانتقل بعد ذلك إلى ديوان وزارة أمن الدولة وتحمل عدة مسئوليات في أقسام الوزارة، ثم تحمل مسئولية مديرية صيرة بالعاصمة عدن ، ثم نائباً لمدير أمن الدولة بمحافظه عدن، وكان قد أُصيب بجروح بالغة في الأحداث المأساوية يوم 13يناير 1986م، ونجي من الموت بأعجوبة مع رفاق دربه الشهيد سالم صالح درعة والشهيد صالح أحمد الفلاحي، وظلت آثار الجراح في بعض أجزاء جسمه ويده ملازمة له حتى وفاته.
وفي حرب اجتاح الجنوب من قبل نظام صنعاء الذي غدر بالوحدة، وقف الفقيد في الصفوف الأولى لمواجهة جحافل قوات الاحتلال ، وصدر به قراراً من قبل علي سالم البيض بتعيينه وكيلاً لوزارة الداخلية، واُختير عضواً في اللجنة الأمنية، وعضواً لمجلس الدفاع الأعلى مع كل من: صالح منصر السييلي، هيثم قاسم طاهر، أحمد صالح عبده، قاسم عبدالرب صالح، صالح علي زنقل وعبدالرب علي مصطفى. وعمل بكل شجاعة ورباطة جأش حتى نهاية الحرب التي تحولت إلى احتلال للجنوب..
بعد الحرب تم توقيفه قسرياً مع القيادات والكوادر الجنوبية الذين أطلق عليهم (خليك بالبيت). لكنه تفرغ لمساهماته في الحياة الاجتماعية بين أهله ومواطنيه ومحبيه، حيث كان شخصية اجتماعية محبوبة لدى الجميع وأخلص في إصلاح ذات البين وفي العمل المجتمعي، وانشغل معظم وقته في حل القضايا الاجتماعية لأبناء مجتمعه، ولم تفلح محاولات النظام لإغرائه بالمناصب، بل ظل ثابتاً على مواقفه الصلبة ودون أن تلين له قناة ضد الاحتلال، ونذكر موقفه الشجاع بعد حرب ٩٤ مباشرة حينما تواصل معه عفاش وعينه نائبا لمدير التحقيقات في الجمهوريه اليمنيه إذ رفض التعيين في هذا المنصب الرفيع وقال لعفاش كلمته الشجاعة:” لا أنا أثق بكم ولا أنتوا تثقون بي”.. ورفض إغراء المنصب مع من غدر بالوحدة وحولها إلى إحتلال، وفضَّل خدمة أهله ومجتمعه كمرجعية اجتماعية، حيث تم تكليفه من قبل أهالي منطقته شيخاً لآل البَلَحَي في مكتب الحضارم لما له من رصيد كبير في حل المشاكل بين الناس، ليس فقط في منطقته، وإنما في كل مكان يتواجد فيه، وسعيه الدائب لمساعدة الناس، ورغم اعتذاره أكثر مرة، لكنه قبل بذلك بعد إلحاح المواطنين والوجهاء والأعيان، لا سيما وأنها كانت رغبة الشيخ المرحوم عوض صالح عبدالقوي الذي أوصى قبيل وفاته أن يحل الشيخ قاسم محله، ونزولاً عند رغبتهم جميعا تحمل هذا المسئولية بجدارة وإخلاص في خدمة أهله ومجتمعه حتى وفاته، رحمة الله.
ونذكر أن الفقيد قاسم الجانحي كان ضمن من صدر بهم قرار من قبل الرئيس عبدربه منصور هادي بعد حرب 2015م قضى بترقيتهم إلى رُتبة لواء مع تسوية رواتبهم وإحالتهم للتقاعد، ورغم هذه الرتبة الرفيعة التي جاءت في الوقت الضائع فإن راتبه ظل 70 ألف ريال يمني فقط دون أن تشمله التسوية ودون حتى استلام ذلك المبلغ الحقير بانتظام.
ورغم ما تعرض له من إقصاء وظلم في استحقاقاته، بعد سنوات خدمته الطويلة، ومعاناته من مرضه الذي أقعده على فراشه، فإن كل ذلك لم يزده إلا صلابة في مواقفه ، وظل أحد القادة اللامعين والمخلصين للوطن وللشعب ، وظل على قناعاته بانتصار إرادة شعبنا وثورته السلمية وحقه في استعادة دولته، وكان يؤكد على وحدة وتماسك الجنوبيين ورص صفوفهم نحو تحقيق هدفهم، ولسان حاله يقول أن لا عزة ولا كرامة لنا بدون استعادة دولتنا في حدود 1990م، وظل يترقب هذا الحلم، حتى وهو يكابد مرضه العضال حتى وافته المنية في 8 نوفمبر 2018م.
لقد عُرف الفقيد الجانحي طوال حياته إنساناً طيباُ، متواضعاً، لطيف المعشر، يأسر من حوله بطلاوة حديثه الذي لا يعرف التصنُّع، وبصوته الأجش الذي يدخل القلب دون استئذان، لكنه كان شخصية صارمة حين يتعلق الأمر بأمن الوطن وقضاياه المصيرية، ويكفيه فخراً أنه من الذين يذكرهم الناس بكل تقدير ويتناقلون سيرته العطرة ومآثره الوطنية وأعماله المشرفة كواحد من رجالات الوطن الأوفياء.
لقد نزل خبر وفاته كالصاعقة على كل من عرفه ، وهو ما عبر عن لسان حالهم الشاعر هاشم صالح عمر الأصبحي، في مرثيته يوم وفاته جاء فيها:
خبر وصلنا مثلما الصاعقه فاجع
الأرض دارت بنا دوره وراء دوره
نعت جبال الحضارم (قاسم الشاجع)
والجانحه كلها والعر والقاره
وتنهَّد الحيد لعصر في جبل يافع
والعين شَنَّه دموع امزان مَطَّاره
رجل ونعم الرجل في حكمته بارع
وله جمايل وله وقفات جباره
تشهد يُفاعه مع ردفان والضالع
والعاصمه شاهده والحي والحاره
لكنه الموت مثل السيف ذي قاطع
والله قضى أمر شيخ الجود واختاره
يا الله عبدك لعفوك والرجاء طامع
سالك تبدله داراً خير من داره
21نوفمبر2023م