شارك الخبر
_________ عيدروس نصر.
كان ذلك في العام 1968 تقريباً حينما تمكنت أسرتنا لأول مرة من اقتناء مذياع ، كان يمثل بالنسبة لي حلماً طالما راودني كوسيلة لمتابعة البرامج المثيرة للجذب كالبرامج الإخبارية والفنية وخصوصا الأغاني ومقابلات الفنانين.
كنت ميالا إلى سماع أغاني وأناشيد الفنان الكبير محمد محسن عطروش والفنان عوض أحمد وغيرهم من الفنانين المحليين كأبوبكر بلفقيه ومحمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبد الله قبل التعرف على الموسيقى العربية لاحقا في أسماء كبيرة كفريد الأطرش وعبد الحليم وأم كلثوم وفيروز وغيرهم.
كانت أغنية “واذارية” أول أغنية أستمع إليها من الفنان مسكين علي بصوته المميز وبكلمات الأغنية المختلفة عن أغاني الحب والغرام وطبعاً عن الأناشيد الثورية التي كانت حينها في ذروة انتشارها بعد انتصار ثورة أوكتوبر وتحقيق الاستقلال الوطني وإعلان جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية (التي صارت فيما بعد عام (الديمقراطية الشعبية).
ما زلت أتذكر المقطع الذي يقول فيه كاتب النص الشاعر أحمد عمر اسكندر وبصوت مسكين:
واذاريه واذاريه قومي الصباح
واذاريه واذاريه اذري لنا ذي الملاح
إلى أن يقول:
وا ذارية وا من سلبتينا العقول بالحسن هذا والدلال
وا ذارية إذري وانا بعدش بتول ببتل على شان الجمال
والنص مكون من عدة مقاطع، للأسف اختفى من العرض على أية وسيلة إعلامية وأكاد أشك أن تكون منه نسخة محفوظة في مكتبة إذاعة أو تلفيزيون عدن بعد حملة التدمير الهمجي الذي تعرضت له بعد حرب 1994م وسرقة محتويات المكتبه للاتجار بها عبر القنوات التجارية الشخصية أو الحزبية، وقد جاءت حرب 2015م لتكمل ما لم تقم به سالفتها في الإجهاز على ما تبقى من مقومات العمل الإذاعي والتلفيزيوني والثقافي والإعلامي في عدن، وهذا الأمر يطول الحديث فيه.
ومن الواضح أن نص أغنية “وا ذاريه” يجمع بين البعدين الغزلي والاجتماعي.
فموضوع الغزل هنا ليست أية فاتنة من ذوات القوام الرشيق والعينين الكحلاوتين والخدود الأسيلة والشفائف الحمراء، كما جرت العادة لدى شعراء الغزل، بل إنها تلك العاملة الزراعية التي تحرث الأرض وتبذر الحبوب كي تصنع الثمار وقد هام الشاعر والفنان بجمالها الملتصق بالعمل والعطاء وبذر مقومات العيش والحياة، فجمع الشاعر والفنان بين حب الأرض ومن يعمل عليها وبين الحبيبة المرأة العادية.
وكان الفقيد مسكين قد غنى قبلها عدداً من الأغاني ابتدأها بأغنية “آبه وا حبيبي” وهي أيضا من كلمات وألحان: أحمد عمر اسكندر, وتقول بعض كلماتها:
آبه واحبيبي هكه محبتك
تهجر ما تقلي شوه حجتك
وقد جرى توثيقها في تلفزيون عدن, وفي التلفزيون البلغاري، ثم جاءت أغنية “المسيرة” للشاعر سعيد هادي عسيري, ألحان: سالم البوك:
المسيرة يا رفيقي أبدًا لا تنتهي
والجماهير الفقيرة كلها تفهم
نور ناجي والرفاق هم طلائع ثورتي .
وهي الأخرى جرى تسجيلها في إذاعة وتلفيزيون عدن.
كما سجل مسكين العديد من الأغاني والأناشيد الوطنية منها
أهلا بك يا عيد الاستقلال، لم أعثر على اسم شاعرها وملحنها
وخطوة بخطوة الطريق، كلمات أحمد مفتاح ألحان أحمد تكرير
مسكين قل لي حبيبي”, كلمات وألحان الأستاذ الموسيقار محمد محسن عطروش.
ومن المؤسف أن أغلبية هذه الكنز الغنائي والفني الجميل غاب أو غُيِّب عن التداول عبر وسائل الإعلام طوال عقود من الزمن، لأسباب لا يمكن تفسيرها، خصوصاً قبل الغزو والاجتياح في العام 1994م أما بعدها فالأسباب معروفة، حيث شمل السحق والتدمير كل العلامات الثقافية والفنية والتراثية الجنوبية لأسباب يعرفها الجميع.
الفقيد مسكين ليس فناناً غنائياً فقط، يجيد العزف على الآلات الموسيقية ويعرف مقومات الفن الغنائي من المقامات والجمل الموسيقية والمقاطع والكوبليهات والأوزان والإيقاعات للقصيدة الغنائية، بل لقد نشأ في بيئة سياسية جذبته إلى عوالمها ومناشطها المختلفة، وسجل حضوراً اجتماعياً وسياسياً مميزاً طوال مسيرته النضالية الغنية بالمواقف الوطنية المشرفة التي جمع فيها بين القيم الأخلاقية الرفيعة وبين الموقف الوطني المتعالي على صغاير المسالك الحياتية وتفاهات المواقف السياسية التي لم تخل منها الساحة بين مرحلة وأخرى وبين عثرة وأخرى، وقد استطاع مسكين أن ينتزع حُب الناس له ليس من خلال سلطة أو نفوذ حصل عليهما، رغم تبوئه العديد من المواقع القيادية في السلطتين الحزبية والتنفيذية في مديرية خنفر أو على مستوى محافظة أبين، بل لقد أحبه الناس لبساطته وتواضعه وصدقه ووفائه وجدية انتمائه إلى بيئته الوطنية والاجتماعية.
شارك فقيدنا مسكين في العديد من المناشط السياسية والثقافية في محافظة أبين وعلى مستوى الجمهورية وفي العديد من الفعاليات العربية والعالمية، فقد كان من المشاركين في تأسيس اتحاد الفنانين اليمنيين الديمقراطيين، وناشطاً بارزاً في الحركة الشبابية الجنوبية حيث شارك في مهرجان الشباب العالمي العاشر الذي انعقد في العاصمة الألمانية برلين صيف العام 1973م وفي مهرجان بابل الخامس بالعراق عام ١٩٩٣م فضلاً عن مشاركاته المتواصلة في جميع الفعاليات الفنية والغنائية المحلية.
طوال حياته الثرية تبوأ الفقيد مسكين العديد من المواقع القيادية الحزبية والتنفيذية والجماهيرية، منذ إن كان سكرتيرا للمنظمة القاعدية لتنظيم الجبهة القومية في محطة كهرباء أبين، ثم عضوا في لجنة المديرية الجنوبية فعضوا في لجنة الحزب الاشتراكي اليمني في محافظة أبين ورئيسا لمنطمة لجان الدفاع الشعبي في المحافظة، ثم رئيسا للجنة الرقابة الحزبية فمديرا لإدرة الثقافة والإعلام في المحافظة، ولاحقا مديرا لمديرية خنفر لعدة سنوات، بجانب عضويته في المجلس المركزي لاتحاد الفنانين اليمنيين الديمقراطيين، وحيثما حل مسكين كان يحظى بحب وتقدير رؤسائه ومرؤوسيه وجميع من يتعامل معه من الموظفين والمواطنين.
في العام 1987م جاءنا مسكين ونحن طلاب في العاصمة البلغارية صوفيا في رحلة علاجية حيث كان يعاني من آلام في الكبد، وقد قضينا بعض الوقت معاً وما زلت أتذكر حينما غنى لنا تحت إلحاح الحاضرين أغنية ” يقول لي الليل توب” وأغاني أخرى بصوته الجميل في إحدى الجلسات المصغرة بمنزل الزميل المرحوم عبد الكريم الشيوعي في صوفيا في حي كراسنو سيلو (القرية الجميلة).
وتشاء الأقدار أن يختطف لموت زميلنا وصديقنا وفنانننا المحبوب مسكين علي حيدره بعد أيام قليلة من مهرجان الوفاء الذي أقامه له زملاؤه من جمعية فناني أبين بمشاركة العديد من الناشطين السياسيين والإعلامين والثقافيين في المحافظة والذي أقيم في مسقط رأس فقيدنا الكبير في قرية الروَّا بمديرية خنفر يوم السادس من يونيو الجاري.
غاب عنا مسكين تاركاً سجلًّا حافلاً بكل معاني العطاء الفني والوطني والثقافي والإنساني، وقبل هذا وبعده بسجلِّه الأخلاقي النقي من كل عيوب التكبر والتعالي والأنانية والتظاهر والاستعراض وغيرها من السلوكيات التي لم تجد قط طريقا إلى نفسية وثقافة وسلوك فقيدنا الكبير.
وقبل الختام
أدعو الزملاء في جمعية فناني أبين وإدارة الثقافة في المحافظة التي كان فقيدنا مديراً لها ذات زمن، أدعوهم جميعا إلى البحث عن أعمال الفقيد مسكين وإعادة تسجيلها كلماتٍ وغناءً بصوت أي من فناني أبين، ولو سُمَح لي بالاختيار لرشحت أحد الفنانين صالح البصير أو صالح قاسم، فهما ينتميان إلى نفس الطبقة الصوتية والمدرسة الفنية لفقيدنا مسكين، وأنتم أعلم بشؤون فنكم ووفنانيكم.
ختاماً لا يسعني إلا أن أتوجه بأصدق مشاعر العزاء والمواساة إلى أولاده وأفراد أسرته وكل أهله وذويه ومحبيه وإلى جميع أفراد الأسرة الفنية والغنائية في أبين وعموم الجنوب، مبتهلا إلى الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد مسكين علي حيدره بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهمنا وكل أهله ومحبيه الصبر ولسلوان
وإنا لله وإنا إليه راجعون.