شارك الخبر
العقيد الركن خالد المطلق – كاتب وباحث سوري في الشؤون العسكرية والأمنية
دخلت منطقة الشرق الأوسط منعطفًا بالغ الخطورة إثر شن إسرائيل ضربات جوية مباشرة على مواقع نووية داخل إيران، لم يعد الحديث عن سيناريو “الانفجار الكبير” مجرد تكهنات بل بات واقعًا يتجسد أمام أعيننا فقد استهدفت الضربات أكثر من عشرة مواقع نووية وعسكرية حساسة بما في ذلك منشأة التخصيب الرئيسية في نطنز، كما طالت علماء نوويين بارزين، وأدت إلى مقتل قيادات عليا في الحرس الثوري الإيراني مثل حسين سليماني ومحمد باقري وغلام علي رشيد وعلي شامخاني، هذه التطورات تضع المنطقة على شفا تحول جيوسياسي غير مسبوق.
لا شك أن الضربة الإسرائيلية الأخيرة تُشكل إعلانًا صريحًا عن انتقال الصراع بين تل أبيب وطهران إلى مرحلة جديدة من المكاشفة العسكرية متجاوزًا سنوات من الحرب الباردة الخفية والتصعيدات المتقطعة، للمرة الأولى منذ عقود تُستهدف منشآت تُعد جزءًا من “العمق السيادي النووي” الإيراني مما يُنذر بردٍّ حتمي لا يمكن أن يكون رمزيًا أو محسوبًا بطرق اعتيادية، نتيجة لذلك أعلنت إسرائيل حالة الطوارئ الشاملة وأغلقت مجالها الجوي ووجهت نداءات عاجلة لمواطنيها بالنزول إلى الملاجئ تحسبًا لأي رد إيراني محتمل بالصواريخ أو المسيّرات.
ومن هنا تجد إيران نفسها اليوم أمام اختبار وجودي حقيقي، ولطالما لوّحت طهران بأن أي مساس ببرنامجها النووي سيُقابل بردٍّ شامل والآن حانت لحظة الحساب، من الواضح أن الرأي العام الإيراني لن يقبل بالتراجع كما أن الحرس الثوري لن يرضى بمرور هذه الضربة دون ثمن، وكل المؤشرات تدفع نحو قناعة راسخة بأن طهران سترد بقوة وأن ساعة الصفر قد بدأت تدق بالفعل، هذا الرد قد يتجسد في ضربات صاروخية مباشرة تستهدف العمق الإسرائيلي أو عبر تفعيل وكلائها الإقليميين المنتشرين في لبنان وغرب العراق وشمال اليمن، إن حجم الرد وتوقيته وأدواته تبقى أسئلة ستُشكل الإجابة عليها سلسلة من المفاجآت الكبرى.
أما على الجانب الإسرائيلي لا تبدو الأجواء أقل توترًا، فقد أعلن مسؤولون رفيعون في الجيش الإسرائيلي أن “تل أبيب مستعدة لمواجهة تمتد أيامًا”، مما يعني أن القيادة الإسرائيلية لا تنظر إلى ما يجري بوصفه ضربة “وقائية” فحسب بل كمعركة “طويلة النفس” قد تتوسع تدريجيًا لتشمل أكثر من جبهة، استعداد المدنيين في مناطق الجنوب والمركز للنزول إلى الملاجئ وحالة التأهب القصوى في سلاح الجو والدفاعات الأرضية تشير بوضوح إلى أن إسرائيل تتوقع ردًا غير مسبوق وأن حسابات هذه العملية تفترض مسبقًا دفع كلفة باهظة، وهذا ما صرح به وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس عندما قال أن الضربة تهدف إلى منع إيران من إنتاج خمسة عشر قنبلة نووية خلال الشهور المقبلة، خاصة وأن إيران تمتلك آلاف الصواريخ الباليستية وتوزعها بالفعل على حلفائها في المنطقة، فضلاً عن ذلك أعلنت إسرائيل أن العملية لا تهدف إلى تغيير النظام في إيران بل تدمير البنية النووية والصاروخية التي تهدد أمنها متوقعة استمرار العملية لعدة أيام.
أما من حيث التوقيت يبدو أن تل أبيب اختارت اللحظة التي ترى فيها أن الولايات المتحدة منشغلة داخليًا وأن المنطقة تمر بحالة من السيولة السياسية مما يسمح بفرض أمر واقع قبل أن تستعيد التوازنات حساباتها، ومع ذلك فإن هذا الرهان محفوف بمخاطر جسيمة على سبيل المثال قد تدفع الضربة الولايات المتحدة إلى التدخل الفعلي ليس فقط دفاعًا عن إسرائيل بل أيضًا لحماية مصالحها الحيوية في العراق والخليج وردع أي محاولة لتهديد الملاحة في مضيق هرمز، هذا التدخل إن حدث قد يشعل المشهد الإقليمي برمته ويحوّل الضربة سريعًا إلى نزاع مفتوح قد يستمر لسنوات.
اللافت في المشهد أن إيران لا تبدو في موقع ضعف كامل على الرغم من عنصر المفاجأة، فشكلها العسكري والإقليمي المبني على مبدأ “الرد عبر الوكلاء” يمنحها هامشًا واسعًا للمناورة والرد غير المباشر والضغط على إسرائيل دون الدخول فورًا في حرب شاملة، ومع ذلك فإن المعادلة تختلف هذه المرة لأن الضربة استهدفت “الكرامة الاستراتيجية” لطهران في مشروعها النووي، وبالتالي فإن ضبط النفس ولو كان تكتيكيًا سيُفسر داخليًا كضعف وإقليميًا كفشل في فرض معادلة الردع.
لقد لعب الموساد دورًا حاسمًا في هذه العملية الإسرائيلية النوعية التي تميزت بالأسلحة والأساليب المستخدمة، إذ قاد الموساد عمليات تخريب متزامنة مع الضربات الجوية بل وأنشأ قاعدة داخل إيران لإطلاق الطائرات المسيرة، كما كان له دور محوري في تحييد وسائط الدفاع الجوي من خلال متعاونين إيرانيين حيث استُهدفت قواعد الدفاع الجوي بواسطة صواريخ أرض-أرض محمولة على شاحنات مدنية عبر مجموعات تخريبية فجرت قواعد إطلاق الصواريخ المضادة للطيران من الداخل وشملت العملية إشراك مئتي طائرة وضرب مئة هدف بما في ذلك عشرة مواقع نووية حيوية.
بات واضحًا أن هذه الضربة الاستباقية تهدف إلى تدمير القدرة النووية الإيرانية الرئيسية وإلحاق أضرار جوهرية بها بالإضافة إلى توجيه ضربة قوية للنظام العسكري والسياسي الإيراني باستهداف قياديين مهمين، كما تسببت في أضرار جسيمة على القيادة والسيطرة للجيش الإيراني لا سيما القوات الخاصة مثل الحرس الثوري، وهنا كانت الرسالة الإسرائيلية إلى إيران واضحة: “إما أن تنصاعي لشروط أمريكا وتتوجهي نحو المفاوضات وفقًا لإرادتها، أو أن هذه الضربة هي مجرد جزء يسير مما سيحدث إذا لم تنفذي المطلوب منكِ”.
في الساعات القادمة يبدو الأفق ضبابيا لمستقبل الشرق الأوسط لو قررت إيران رد الضربة بقوة خصوصًا إذا كانت الهجمات الإسرائيلية قد أحدثت بالفعل دمارًا واسعًا في مواقعها النووية فإن المنطقة كلها ستدخل رسميًا في أكبر وأخطر حرب إقليمية منذ أيام حرب الخليج، الرد المقبول في هذه الحالة لن يكون أقل من قصف تل أبيب بالصواريخ والطيران المسيّر إضافة إلى ضرب القواعد الأمريكية في العراق وسوريا وتفعيل أذرع إيران كحزب الله والحوثيين والميليشيات الشيعية في العراق لفتح جبهات مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة، إن الساعات القادمة قد تكون هي الأشد خطورة في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر حاملة معها أفقًا ضبابيًا لمستقبل هذه المنطقة المضطربة.