شارك الخبر
🖊️ فاروق المفلحي
تسلم الشيخ قاسم المفلحي المهمة الشاقة والمهيبة ، في ان عين شيخ مشايخ المفلحي يافع الاعلى والادنى وبني مسلم وهي مناطق تتبع مكتب المفلحي ومنعزلة جغرافيا ولكن عرف عن اهلها بالطيبة والعزم عند الحروب والخطوب وكان ذلك في عام ١٩٢٠م .
ومن اسباب تردد الشيخ قاسم المفلحي في قبوله لهذه المسؤولية المهيبة هو صعوبة ملء الفراغ الذي خلفه والده الشيخ عبد الرحمن المفلحي ، والذي كان يمتاز بالدهاء والحكمة وسعة الصدر والتسامح واللطف الجم ، فكان على من ياتي بعده ان يتمثل به وينهج سيرته الرائعة في الاصلاح والتسامح وحب الناس وكان ذلك شاقاً ومهيباً على من يأتي بعده .
والحقيقة لم يكن الشيخ قاسم المفلحي هو الذي سيخلف والده ولكن قبائل مكتب المفلحي اصرت على اختياره ، لزهده وتواضعه ولين عريكته وصدقه وقدراته على الفصل في المنازعات ،وفهمه العميق للعادات القبلية واحكامها ، واكتسب ذلك بعد ان كان ينوب عن والده في المفلحي الاعلى اثناء مهماته في المفلحي الادنى وبني مسلم .
عندما نصب الشيخ قاسم المفلحي شيخا كانت مهمته في اقناع قبائل المفلحي في ان بريطانيا مثلها مثل اسبانيا والبرتغال سوف تغادر كل مستعمراتها ، وعلى يافع ان لا تخاف من قبول بعض العون من بريطانيا دون تدخلات واملاءات فبريطانيا تطوي ايامها وتنسحب من الشرق الاوسط ، وعلينا ان نستفيد من اي منحة بريطانية ولو كان ذلك في العلاج والهجرة للعمل في انجلترا وكان يردد الشيخ قاسم المفلحي قوله -ان ناخذ من الظالم ولو حجر –
ومطالبه كانت منطقية وعقلانية ومنها قبول زيارة المساعدين الصحيين الى يافع للقيام بالتطعيمات والتلقيح من عدوى الجدري والكوليرا وفتح مدارس ابتدائية بل وامكانية شق طريق يربط يافع الجبلية بعدن الى منطقة الحبيلين مرورا -بمكتب يهر – لكنه لم يجد اي اذن صاغية بل انهم وصفوا ذلك بالخضوع للاستعمار فيافع كما يقولون ويرددون لا يعرفون الدولة .
دافع الشيخ المفلحي حينها عن توقيع معاهدة حماية لا رعاية مع الملك جورج الخامس ، لانه وبدون تلك المعاهدة كانت يافع ستعاني من هجمات بربرية من قبل قوات الامامة ، وان المصلحة اقتضت ان وقعوا مشايخ يافع مع الانجليز تلك المعاهدة ، وذلك لمساعدة يافع في صد الهجمات الامامية ، وحتى لا تتمزق ارض يافع وتنسلخ بعض مناطقها ، حيث انسلخت عن يافع منطقة البيضاء ، وهي اي يافع لم تتنازل عنها بل كانت البيضاء واسطة عقد يافع ، وسلة الغذاء وفصلت عن يافع بعد ان استنجد الشيخ الرصاص بالامام في ١٩٤٨م بسبب خلافه مع مشايخ آل حميقان .
وعن سيرة الشيخ المفلحي فقد حاول احداث نقلة في التعليم الحديث بدلا عن
– نظام المعلامة -فلم تكن تلك المعلامات الا لتعلم اللغة العربية وبعض اصول الفقه والحديث ، فاختلف مع الناس رغم نصحه لهم وتوقه الشديد الى دفع الصغار ذكورا واناثا الى التعليم الحديث .
وعن رفض يافع وكل قبائل مكتب المفلحي كل هذه الافكار والمقترحات فالسبب يُعزى الى خشية الحداثة والتي قد تغير من اصالتهم وتراثهم ، كما وعارضوا بشدة دعم بريطانيا مهما كان نوع هذا الدعم ، وقبلوا وعلى مضض وبعد الحاح على زيارة مساعدي الصحة الى يافع في حملات تطعيم وسلمت يافع بإعجوبة من جائحة الجدري والكوليرا وحصلوا على علاجات لمرض الملاريا ، الذي كان يطلق عليه – نُقضْ- وكان ذلك بعلاج ثوري حينها اطلق عليه -الكونين- .
وعن فتح مدرسة ابتدائية للتعليم الحديث في يافع ، فقد رفضوا هذا المقترح وقبلوا فقط ارسال ابنائهم للدراسة مجانا في – تريم – حضرموت – وبعد ذلك في مدرسة جبل حديد في عدن ، وتخرج من مدرسة جبل حديد اكثر من ٢٥ طالبا من المفلحي واصلوا بعضهم دراستهم العلياء في السودان وبريطانيا وكانوا نواه النهضة التعليمية في المفلحي .
ومن حسن الطالع فقد وجد الشيخ المفلحي الاستجابة لمقترحاته في منطقة – المفلحي الادنى- خلة – وهي منطقة زراعية خصبة وتتكون من ١٦ قرية وتمتد على سهوب زراعية واسعة وعلى تماس مع حدود الجمهورية اليمنية ، وتحديدا منطقة – قعطبة- حيث قبلوا سكان المفلحي الادنى فتح مدرسة ابتدائية لتعليم الابناء والبنات وفتح عيادة صحية واقبلوا على التطعيم كما قبلوا بشق الطرقات واقامة مركز مكافحة الجراد ، فكان ان انتقل مركز الحكم من عاصمة المفلحي الاعلى الى عاصمة المفلحي الادنى ثم تحول الاسم الى – مشيخة خلة – وعرف عن هذه المنطقة بانها مهد حضارة حمير ، ولا زالت ارضها تغص باللقى والكتابات المسندية والصهاريج المنحوتة بالصخر الصلد ولو كرست اعمال الحفريات المتخصصة لربما ستكتشف من الاثار ما يكفي فتح متحف .
فتحت اول مدرسة ابتدائية في خلة في عام ١٩٥٠ م كما وفتحت عيادة اسعاف وتطعيم ومجارحة ، وتم بناء محكمة للتقاضي ومكتب زراعي وانشاء فرقة أمن من ابناء المواطنين مع شق طريق يمتد الى مدينة الضالع فتيسر حينها السفر بالسيارات الى مدينة عدن ، فدبت الحياة وبدات المنطقة تشهد تطوراً مشهوداً .
ساهم الشيخ المفلحي في التشجيع على الهجرة الى بريطانيا وكان يردد دائما ان يافع – بشر على حجر – فهاجر البعض وبجوازات بريطانية الى المملكة المتحدة وتكونت نواة اول جالية يافعية صغيرة في مدينة برمنجهام الصناعية .ثم مدينة شفيلد مهد صناعة الاسلحة ومصاهر الحديد والصلب .
ما سر دفاع ابناء يافع المفلحي الاعلى عن منطقة- خلة-؟ والحقيقة فان قبائل يافع عامة ومنذ القرن السادس عشر اخذوا بالنزوح من تلك الشواهق الى مناطق مثل الضالع وردفان وخلة، فاصبحوا يشكلون الاغلبية السكانية ، وللعلم فحكام تلك المناطق هم من اصول يافعية فاسرة
– الاميري – التي حكمت الضالع لسبعة قرون ، وصدت بتعاون سكانها الحملات الامامية ،تعود اصولهم الى يافع وكذلك اسرة الخلاقي ، حكام منطقة الشعيب بل وللتذكير فان امتداد يافع السكاني شمل لحج والعقارب وجعار وكان يطلق على جعار سلطنة يافع الساحل . على ان من نزحوا من يافع الى الضالع ولحج وجعار وردفان وتزيد اليوم نسبتهم عن ٦٠٪ من سكان تلك المناطق وهم من يشكلون اليوم اغلبية السكان ، ومن يافع اسر وقبائل كثيرة سكنت في الضالع ومنها كما اسلفت اسرة الاميري حكام الضالع ، وقبيلة الشُعار المهابة ، بل وقبيلة الرئيس عيدروس بن عبد العزيز بن قاسم الزُبيدي وتعود اصولهم الى قبيلة – مشبع – اليافعية علما ان جد الرئيس عيدروس هو الشيخ قاسم الزبيدي . وكانت – الزُبيدي – مشيخة مستقلة في عهد امير الضالع نصر بن شايف عبد الهادي الاميري . وهناك امتداد لاكثر من عشرين قبيلة يافعية تقطن الضالع والشعيب وخلة وردفان .
وعودة الى سيرة الشيخ المفلحي فقد كانت نصيحته لاهل يافع باقامة تعاون بين يافع والانجليز للحصول على دعم وتمويل لمشاريع ، ومنها شق الطرقات الا ان ذلك لم يتحقق ، وتحقق بما يشبه المعجزة موافقة سكان المفلحي الادنى بعد ان لمسوا مميزات التعليم الحديث والعلاج فوافقوا على ان يقام تعاون بين مشيخة المفلحي الادنى وبريطانيا ، فاصبحت مشيخة المفلحي – خلة – احد ولايات الجنوب العربي وانضمت الى الاتحاد الفيدرالي في عام ١٩٦٣م ، وبعدها تطورت الحياة في مشيخة خلة وتم فتح المدارس الابتدائية في كل القرى كما توفرت فرص الهجرة الى بريطانيا وشرق افريقيا والسعودية ، وكذلك هاجر الكثيرون الى امارة- الشارقة – في الخليج .
وبعد انضمام مشيخة خلة الى الاتحاد الفيدرالي ، منحت القروض الزراعية للمزارعين وبدأ استخدام الميكنة الزراعة كالحراثات والحرارات وكذلك تم اقراض المزارعين امولا لشراء مضخات المياه من الابار العميقة وتعمل بالديزل وعرفت حينها باسم – بلاك استون –
ولقد تحققت بعض اماني الشيخ المفلحي بتنمية الزراعة وحفر الابار ونجح في اقناع المزارعين في زراعة الخضروات وكذلك الحمضيات وفاكهة الباباي ، التي ازدهرت زراعتها في المنطقة حينها ، كما تاسست في خلة اول ادارة حكومية وتم رفد مشيخة خلة بميزانية متواضعة شملت دعم الزراعة والتعليم والصحة والامن والقضاء .
وعن الشيخ قاسم المفلحي فقد عرف عنه حب القراءة والاطلاع وخصوصا بعد ان ابتعث للدراسة في حضرموت -المكلا – وامضى هناك ثلاث سنوات . كما انه كان بسيطا لين العريكة متسامحا وظريف العبارة . ورغم تخوف الناس من تعاملهم مع بريطانيا فقد اقنعهم ان بريطانيا قد رحلت من معظم مستعمراتها وعلينا ان نحصل منها ما نستطيع قبل رحيلها .
وعن اختيار والدي لتسلم وسام الفارس
- knight – من قبل ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية – اثناء زيارتها التاريخية لعدن في عام ١٩٥٤م فالحقيقة فانها منحت بشروط وعبر لجان ملكية ومنحت لشخصيات اتسمت بالاصلاح الاجتماعي ودعم التعليم وحسن ادارة امور الناس ، واجمالا فان مشايخ يافع ساهموا في الحفاظ على ارض الجنوب فسلمت من التمزقات علما ان ليافع الدور الواضح في صد قوات الامامة وكسر حملاتهم عن يافع وامارة الضالع ومشيخة الشعيب ومشيخة المفلحي بل وحضرموت وربما ان هذا الدور الهام ساهم في منح بعض السلاطين والمشايخ وسام الفارس على ان التكريم شمل كبار رجال الاعمال الحضارم .
تنازل الشيخ المفلحي في ١٢ اغسطس ١٩٦٧م عن الحكم وطلب ان يعيش فلاحا لعشقه للارض والفلاحة وذلك بعد مفاوضات مقتضبة مع قادة الجبهة القومية ، بعد ان حشدوا مظاهرة مسلحة وحوصر منزله في قرية خلة ، وآثر الشيخ المفلحي الاستسلام وطلب من الجنود عدم مواجهة الحشود او ايذائهم وذلك تجنبا لاراقة الدماء .
حينها القى الشيخ المفلحي كلمة بالحشد وطلب ان لا يروع اطفاله او يظلم اصحابه ولهم ما يرونه ، فكان الاتفاق على تسليم نفسه ، واودع سجن -دار الحيد – في الضالع وللاسف الشديد فبدون محاكمة تم استشهاده في سنة ١٩٧٣م ونسال الله ان يتغمده بواسع رحمته . ومن المؤلم ان كل سلاطين ومشايخ وعقال يافع وهم فرسان وقيادات تاريخية تم قتلهم وهذه الكارثة يصعب علينا نسيانها بدون المصالحة مع الذاكرة .
واكرر ان علينا في الجنوب ان نعمل على الاعتراف بالخطأ الفادح الذي مورس على سلاطين وامراء ومشايخ الجنوب ورجال الاعمال ومشايخ الدين والمعارضين واهمية ورد الاعتبار لاسرهم وتنقية تاريخهم الناصع من التشوهات المتعمدة . هذا اذا اردنا ان نطوي المأساة ونضمد الجراحات التي لا زالت عميقة بل ونازفة .