شارك الخبر
دلتا برس / خاص
نظمت نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين عصر الأربعاء أمسية ثقافية عن شاعر الجنوب الكبير شائف محمد الخالدي برعاية محافظ عدن الاستاذ احمد حامد لملس تنظم نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين.
واعد د.علي صالح الخلاقي ، رئيس الدائرة الثقافية في النقابة الى الامسية ورقة عن مسيرة الشاعر واسرار من حياته تعلن لأول مرة ننشر نصها :
▪ملامح من مسيرة الشاعر شائف محمد الخالدي
اسمحوا لنا في هذه الأمسية الثقافية أن نستجلي جوانب من أشعار الشاعر الخالد شائف الخالدي..الذي عشق الشعر عشقه للحياة وملأ حياتنا شعرا وقصائد. بل يمكن القول إن حياته كانت شعراً.. قصيدة بدأت مع شبابه المبكر وحتى رحيله عن دنيانا… لم يكن الشعر لديه ترفا. بل كان صاحب موقف ، ملتزماً بقضايا وطنه وشعبه.. تغنى بشعره للمرأة..للأرض.. للإنسان..للثورة.. للحرية.. للعدل.. لمظاهر الجمال وقيم الخير.. للوحدة حينما كانت حلماً جميلاً ….وقاوم بشراسة الشر والفساد والظلم والنهب والاحتلال بأشكاله. طَرَقَ مختلف فنون الشعر الشعبي وترك لنا إرثاً ضخماً وكانت أشعاره تنتشر أولاً بأول ويتلقفها المعجبون حال نزولها بواسطة أشرطة الكاسيت مغناة بأصوات المطربين الشعبيين، أمثال: سالم سعيد البارعي والسيد محضار وعلي سالم بن طويرق وحسين عبدالناصر وبن عطاف وغيرهم. ومما لاشك فيه أن شاعرنا الكبير كان من بين قلائل ممن تميزوا بحضور كاسح وتأثير واسع بين صفوف الجماهير ليس فقط في حياته ولكن بعد مماته أيضاً، فما تزال أشعاره تجتذب جمهوراً واسعاً في عموم الوطن وخارجه، سواء عبر ما تيسر نشره منها مطبوعاً، أو عبر أشرطة الكاسيت أو من خلال الشبكة العنكبوتية.
برز الخالدي في شبابه شاعر “قبيلة” سرعان ما انتهى به الأمر إلى شاعر للوطن وللثورة ضد المستعمر، لا سيما بعد أن غادر مسقط رأسه إلى عدن التي وصل إليها في مقتبل شبابه مع عدد من أبناء منطقته للعمل، وفي الوسط العمالي تفتح وعيه الوطني والقومي وتوسعت معارفه ونهل من مختلف الأفكار والثقافات التي كانت تموج بها عدن، لاسيما بعد قيام ثورة مصر الناصرية وتأثيرها الواسع في نمو الوعي التحرري ضد الاستعمار وعملائه.
وفي عدن، التي عمل وعاش فيها معظم سنوات عمره، برز الخالدي وتشكل صوته الشعري المميز الرافض للوجود الاستعماري ولكل صنوف الظلم والعسف والاضطهاد، فتعرض للسجن والطرد والنفي من عدن. ويزخر شعره، منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي، بالمواقف والرؤى الوطنية المبكرة التي سيحتاج إليها كل من أراد أن يؤرخ للشعر ودوره في استنهاض الهمم والتحريض ضد المستعمر وضد الأوضاع القبلية المزرية التي شكلت عقبة كأداء أمام تطور المجتمع، حيث جرد سيف بيانه لمواجهة هذا الواقع المتخلف، وبشر بالثورة ونافح عنها، ولو أن أشعاره الوطنية في مراحل النضال والمقاومة نشرت ولقيت الاهتمام من الباحثين والمعنيين لمثلت إضافات رائعة إلى مساحة الشعر الوطني الذي عرفناه لغيره من الشعراء أمثال: إدريس حنبلة وعبدالله هادي سبيت ومسرور مبروك وغيرهم.
تُعد أشعار الخالدي سجلاً للتاريخ ورصداً للحوادث والمتغيرات التي شهدتها بلادنا على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، والتي عاشها وعايشها وأبدع في تصويرها بكلماته السلسة والقوية التعبير.
بدأ شاعراً عاطفياً، وتفصح قصائده العاطفية عن مكنون نفسه، وتيسر لنا التعرف على فيض مشاعره، وهي تنبض بالصدق وتتألق بالفن الجميل ومزاوجة الألفاظ بالمعاني وارتعاش القوافي في تناغم موسيقي بديع يشنف الأذن ويطرب النفس، ولا غرابة في ذلك فمعظم غنائياته نظمت خصيصاً لتغنى وتردد بألحان شعبية أصيلة. ومن يقرأ أو يستمع إلى غزلياته يجد نفسه مأسوراً بلغته السلسة الممتعة :
الخالدي قال وا مولى الجَعِيْد الخُماسي
ويلك من الله كم لي بذكُرَكْ وأنت ناسي
كم لي وأنا صيح من هجرك وكم ذي بقاسي
بس الجفا بَسْ بَسْ
أحَّوْه منَّك وحَسْ
من باطلك والحَمَسْ
وفي قصيدة أخرى يسجل، بكلمات صادقة، ما يمكن أن يقوله آلاف الذين هجروا أهلهم وأحبائهم -على كبر سنهم- إلى مختلف الأقطار طلباً للقمة العيش، فها هو يصور معاناتهم وحنينهم للقاء شريك الروح:
كلفني الوقت با أتغرَّب وأنا شايب
وأطفال ما ليله أمسي منهم غائب
وأنته كذا يا شريك الروح والصاحب
با فارق أهلي ودمعي عالوجن مسكوب
يحن قلبي عليهم ما تحن النوب
يصعب عليَّا فراقك والكبد ملهوب
الشعر الوطني
برز هذا الاتجاه والنزوع الوطني، بل والقومي لدى الشاعر الخالدي منذ شبابه المبكر متزامنا مع ما نظمه من شعر غزلي.. وهكذا فبين بداياته الأولى أواخر الأربعينات(1948م) وحتى وفاته في 31 ديسمبر 1998م تمتد رحلة نصف قرن، بالوفاء والتمام، من مسيرته الإبداعية الزاخرة، تميز فيها بغزارة إنتاجه وجودته. ومن نافل الإشارة أيضاً أن الشعراء الشعبيين في بلادنا كانوا يرون في الخالدي (أميرهم) غير المتوج وقد تساجل مع ما ينيف عن مائة شاعر. وفي الحقيقة لا نجد شاعراً شعبياً مثله استقطب حوله مثل هذا العدد الكبير من الشعراء ومن مناطق مختلفة من شمال اليمن وجنوبه، ممن تبادل معاهم المساجلات الشعرية، منذ ما قبل الاستقلال، ومروراً في المرحلة التي أعقبت الاستقلال الوطني ووصولاً إلى الوحدة ..
تعبر أشعاره من قصائد وزوامل ومساجلات عن تطور تجربته الشعرية، بما لها وما عليها، على مدى نصف قرن، كان فيها شاعرنا لسان حال الشعب ونبضه المتحرك، فقد عبر عن كل المتغيرات والتصدعات وكشف عن أسبابها، بل وحذر من مخاطرها قبل وقوعها.. إذ تبدأ مواقفه تلك مع بداياته منذ أواخر الأربيعينات ومطلع الخمسينات حينما أخذت أشعاره تنتشر على نطاق واسع، وقد امتزجت في بواكيره المسحة الصوفية، كما نرى في قصائده الوجدانية التي تعود إلى تلك الفترة(أواخر الأ ربعينات وفترة الخمسينات والستينات)، وكذا امتزاج النزعة القبلية والوطنية التي نلمسها بوضوح في قصائده المكرسة لتداعيات وأحداث اغتيال الشيخ أحمد أبو بكر النقيب. ثم في الوعي العربي-القومي الملحوظ ، الذي أحدثته ثورة مصر وشخصية زعيمها جمال عبدالناصر، وهو ما نلمس أثره في قصائد شاعرنا التي تغنى فيها بثور مصر وبزعيمها عبدالناصر الذي شغل مكانة هامة في أشعاره المبكرة، ورثاه عند موته بقصيدة عصماء، كما ساند الخالدي وبصورة مطلقة القضية الفلسطينية وأيد الثورة الجزائرية.
ربما يعرف الكثيرون الخالدي شاعراً كبيراً، ملأ الأسماع، لكنهم يجهلون أنه كان مناضلاً وطنياً ضمن رعيل الثورة الأوائل، ومن جيل الوطنيين المتأثرين بالأفكار العربية التحررية والوحدوية التي سادت الوطن العربي بعد انتصار ثورة يوليو المصرية. وبدافع من ذلك الوعي الوطني والقومي التحق الشاعر ضمن كوكبة من شباب الجنوب الذين هبوا للدفاع عن ثورة 26 سبتمبر 1962م التي قامت ضد الحكم الإمامي في صنعاء. وقد التحق في صفوف الحرس الوطني، وشهدت له معارك أرحب والحيمتين وجحانة- خولان وغيرها وجلجلت كلماته مع أزيز رصاص البندقية محيياً (ثورة السَّلال) كما كان يُطلق شعبياً على ثورة سبتمبر، التي اختطفها الحوثي.
وفي مسيرة الثورة المسلحة 14 أكتوبر 1963م ضد الاستعمار البريطاني أسهم بدور لا يستهان به في معارك الشرف ضد المستعمرين الانجليز. فقد التحق مبكراً في صفوف “جبهة الإصلاح اليافعية” وهي إحدى الفصائل الوطنية التي تكونت منها فيما بعد الجبهة القومية.
تلازمت في مسيرته النضالية البندقية مع الكلمة الشعرية المدوية، وكانت قصائده تؤجج المشاعر وتحولها إلى لهب من الغضب المقدس في وجه المحتل، بل إنها كانت تفعل ما تعجز عنه عشرات الخطب في التأثير على الجماهير..ويذكر رفاقه في النضال أن أشعاره كانت بمثابة (بيان هام) في معظم اللقاءات الجماهيرية التي كانت تُقام في يافع طوال سنوات الكفاح وذلك في كل فترات تواجده هناك، وإن غاب في جبهات النضال الأخرى فإن أشعاره الحماسية المؤججة للغضب الشعبي ضد المستعمرين تنوب عنه وتكون دائماً حاضرة ومتناقلة بين الناس. ومعظم هذه القصائد لم تُدون، وبقي منها القليل فقط، مما يُنشر لأول مرة في هذا العمل. ومن بينها قصيدته التي صدح فيها عند تحرير المناطق الواحدة تلو الأخرى:
حررنا الوطن واتحرر، وعلى الخائن الله أكبرصوت الشعب له داويّه، برع يا بريطانيه
في مرحلة الاستقلال اقتنع الشاعر الكبير شائف الخالدي بخدمة وطنه جندياً في صفوف الشرطة الشعبية، ثم موظفاً في وزارة الثقافة والسياحة. ولكن الشاعر في داخله كان أكبر من حجم الوظيفة البسيطة التي اسندت إليه. وكان حضوره الشعري قويا في كل منعطف خطير.. وكانت الجماهير تتلهف إلى بياناته الشعرية التي تتنفس من خلالها الصعداء لأنها تكشف ما أخفته البيانات الرسمية وتشير إلى مكامن الوجع، فقد كان يتفاعل مع كل ما يعتمل من تحولات، لكنه التفاعل الواعي لا الأعمى الذي لم يثنه عن قول كلمة الحق، كما يراها هو، وتتحوّل مواقفه وآراؤه إلى سبائك فريدة من الأشعار الشعبية المعبرة عن كل الأحداث الوطنية والقومية. وتقول لنا أشعاره ومساجلاته بوضوح أنه كان من أكثر الشعراء الشعبيين وعياً بمتطلبات مجتمعه وأشدهم التصاقاً بقضايا شعبه وصاغ في أشعاره رؤى عميقة إزاء مختلف القضايا التي عالجها وتعرض لها بسهام نقده اللاذع، حيث كانت الكلمة لديه سلاحاً، وكان بأشعاره تلك مثل “ذبابة سقراط” تنبه الغافلين وتثير الراكضين وتقيم الخاضعين.
وقد نبه بحدسه وفطنته ومنذ وقت مبكر لخطورة حسم الخلافات بالقوة لأنها ستلتهم رموز الثورة ورجالاتها، كما في قصيدته التي وجهها إلى المناضل محمد صالح مطيع، وزير الداخلية حينها، مطلع السبعينات، وفيها يقول:
ما فايده لو فشلنا في عمل ناجح
با يستفد من فشلنا السارق المزَّاح
والوقت مثل اقلب ايدك يا ولد صالح
كُلاً يحاسب لمسراحه وللمرواح
با تكمل البُوش ذه راحه وذه رايح
ما لو قده كل يوم الجَزر والذِّبَاح
وللأسف فقد كان من توجه إليه شاعرنا أحد ضحايا تلك الخلافات التي تكررت غير مرة وكانت نهاياتها دموية ومأساوية وعرقلت مسيرة البناء والتقدم وأوردتنا موارد التهلكة وقادتنا إلى ما نحن فيه اليوم من وهن وضعف.
عاش الخالدي عزيزاً، معتداً بنفسه، لم يعبأ بالسلطة أو التقرب إليها، إلا في مواقف حذرة، ولم يداهن الحكام أو يبتذل في مدحهم أو التقرب إليهم. بل انحاز إلى الشعب، وكان يجهر بالحق دون خشية أو خوف والقصيدة لديه سلاح حاد ، ولا بد لها أن تلامس هموم المجتمع وتساهم في حل مشاكله. ومثلما كان قاسياً في تعرضه للنواقص والعيوب والممارسات الخاطئة فقد كان واضحاً ومنصفاً في التعرض للإيجابيات والتغني بها والإشادة بها وقد حافظ على مواقفه الوطنية، دون أن يتحزب أو يدخل طرفا في اللعبة السياسية وهو ما جعل أشعاره شاهداً على تلك المراحل ودخل بها التاريخ من أوسع الأبواب.. بيد أن استقلاليته في الرأي وفي الشعر جعله عرضة للاهمال الرسمي في حياته، بل وتعرض بسبب ذلك للأذى والمضايقة من قبل بعض المسؤولين الذين ضاقوا ذرعاً بشعره، فأودع السجن في (لبعوس) بيافع منتصف الثمانينات بتهمة كيدية، ولم تشفع له عضويته في مجلس الشعب المحلي في محافظة لحج حينها. ولا غرابة أن يدفع شاعرنا ثمناً لمواقفه تلك فيدخل السجن في ظل السلطة الوطنية، كما دخله من قبل في عهد الاستعمار، وقد أبدع في (سجن لبعوس) مجموعة من أروع قصائده، لعل أكثرها شهرة:
ماشي حنق يا السجن علمني دروس
اعرف صديقي من عدوي واعرف الجاسوس
غيبي نَصِيف اليوم يا عين الشموس
لو ما تقولي لي عَلَيش الخالدي مَحبُوس
ما خُنَّا مبادي ما ارتشينا بالفلوس
ما هل بغونا اصحابنا نخرج بلا ناموس
قلنا حكومه في عدن تَحلُق بمُوس
وان عادها معنا حكومه غير في لبعوس
بتسِنّ خنجرها لقطَّاع الرؤوس
قانون عاده طَمّ قانون المَجَر والروس
. ومع كل ما تعرض له من إهمال رسمي متعمد فقد كانت شهرته جماهيرياً تفوق كثيراً شهرة البعض من الشعراء الذين كانوا يطلون علينا كثيراً عبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة بمناسبة وبدون مناسبة، مع أن أشعار البعض منهم لا ترتقي إلى مستوى أشعار الخالدي.
ونجد أن مدينة عدن حاضرة في أشعار الخالدي بكثرة، فقد عاش فيها أجمل سنوات شبابه واستقر فيها للسكن والعمل معظم سنوات عمره ونظم فيها أكثر قصائده ومساجلاته الشعرية،وكانت تتنازع حبه مع مسقط رأسه يافع، وهو ما ينعكس في كثير من قصائده، مثل: (متى يا عدن با تفرحي؟)، (عادش ياعدن)، (ما وسعني عدن!) ، (عصابة في عدن)، (باعونا وباعوا عدن) ، (مهلا يا كريتير عدن) ، (قالوا عدن حُرَّة !) وهذه الأخيرة نظمها على شكل زوامل..كشكل من اشكال النضال والرفض – حينها- للواقع الذي أفرزته حرب 1994م. ولا شك أنه كان يتنبأ فيها بهبة الشعب الجنوبي المباركة في حراكه السلمي ضد ثعالب الفيد الغازية – كما اسماهم- وهي الثورة التي بدأت بعد عقد تقريباً على نبوءة الشاعر. ناهيك عن تغني الشاعر في كثير من أشعاره بعدن، الأرض والإنسان، ورصد وتسجيل ما شهدته من أحداث على مدى حياته الإبداعية، وتأثره الملحوظ باللهجة العدنية.
أجاد الخالدي النظم فيما يُعرف بالشعر الساخر، بطابعه النقدي اللاذع الذي أضفى على أشعاره صبغة طريفة محببة إلى النفس، وأعطاها تأثيراً أقوى ومعنى أعمق في توصيل رسالته الاجتماعية وفي قول كلمة الحق مهما كان طعمها علقماً. ومثل هذا الفن الساخر لا يمتلك عنانه إلاّ القلة ممن حباهم الله بموهبة أو عبقرية تمكنهم من الإمساك بناصيته وتوظيفه بطريقة مبدعة وشيقة تلفت الانتباه وتبعث على الضحك الذي يشبه البكاء أو الفرح الممزوج بالحزن أو الهزء الهادف والموجه إلى هدفه البيّن. ولقد أبدع الخالدي في هذا الفن، وكانت سخرياته أكثر جاذبية لعامة الناس لأنه يلبسها ثوباً شعرياً جميلاً وتعابير مألوفة، ومن خلال هذا الفن استطاع شاعرنا أن يسخط ويثور ويواجه وينتقد ويعظ في أكثر من مجال وعلى أكثر من جبهة طوال مسيرته الشعرية الصاخبة.
وسخريته ألوان واشكال.. وفنون وجنون.. نتعرف عليها في سخرياته (وا عمَّه جميله)، (حَيَّا صَبَاحش يا بقرتي)، (قالوا عدن حُرَّه!)، (يا ساتر على السرق):
لك الحمد يا ساتر بسترك على السَّرق
ويا مَن تبدِّلهم بَدَل خوفهم أمان
ويا من رفعت الفَسل لا عالي الطَّبَق
ونَزَّلت أفضل ناس من أفضل المكان
ويا باسط النعمه لعاصي ومرتزق
وكَم من عزيز النفس مُخلص تِعِب وهان
وسَهَّلت رزق المرتشي من قفا العُلق
بيسرح خلي جيبه ورَوَّح وهُو ملان( )
وحققت للخائن مَرَامه بدُون حق
وسَلَّطت ذَرَّه تفترس حَيْر يعزُفان
وسَوَّيت صوره طَيِّبه لأشوع الخِلَق
وشَوَهَّت سُبحانك بعدة صُور حِسَان
لك الحمد ما يرعد وما بارقه برق
على ما مَنَحت النذل من فخر وامتنان
وغَلَّيت ذي بأرخص ثمن كان ما نَفَق
ورَخَّصت أشياء غاليه سعرها زِبَان
وهذه من دُرر أشعاره الساخرة التي تظل قيمتها في كل زمان ومكان، طالما ظلت السرقة والرشوة والحماقة في إدارة شؤون المجتمع سائدة ومتفشية.. ففي كل بيت نلمس سخريته المرة إزاء أولئك الذين رفعتهم الصدف والمحسوبية وبدوا في مواقعهم التي لا يستحقونها على غير حقيقتهم.. ور حم الله الخالدي فقد اضحكنا وأبكانا في شعره.. فهل من يأتي ليحمل روحه الطريفة الساخرة ليضحك أمة ضحكت من جهلها الأمم؟!
الخالدي قال شائف
طَغَت عليَّا دجاجي
وأصبحت خاضع لكلبي
ذي كان يرعى نعاجي
والصّبر ما با يخارج
لو قلت بَحسب خراجي
عشرين صعلوك يخرج
ومِيْة صعلوك واجي
وللتاريخ نقول: إن الخالدي تغنى كثيرا بالوحدة، مثله مثل كثيرين غيره، منذ أن كانت حلماً وهدفاً لنضالات الوطنيين ممن اعتبروها لبنةً أساسية على طريق الوحدة العربية. وقد جسد شاعرنا إيمانه بها قولا وفعلا منذ أشعاره المبكرة ثم في التحاقه بطلائع الجنوبيين ممن هبوا للدفاع عن الثورة والجمهورية في صنعاء. وظلت الوحدة اليمنية من بين القضايا التي شغلت هاجسه الشعري، خاصة في فترات الاحتكاكات الحدودية، وحتى يوم تحقيقها في يوم 22مايو 1990م. ولشاعرنا الخالدي ما يعتز به من تراث ومواقف في هذا الصدد أوردناها في سياقها التاريخي في هذا الديوان.
لكنه صُدم مثل كثيرين غيره بانحراف الوحدة السلمية عن مسارها، منذ أن برزت بوادر الخلافات في المرحلة الانتقالية، التي أطلق عليها البعض (الانتقامية) ، مرورا بالتوقيع على وثيقة العهد والاتفاق، التي تم الالتفاف عليها من قبل نظام صنعاء القبلي- الأسري ، فخاطب كريتر في عهد محافظها الشهيد صالح منصر السييلي، يقول في مطلع مارس 1994م :
مهلاً يا كريتر عدن
يا قلعة صلاب الرؤوس
بالصابون با نغسلش
لو هم وسَّخُوش المجوس
كوني واثقه وأبشري
با يشفع لنا العيدروس
وابطالش حُماة الوطن
ما لش من ضعاف النفوس
وكان الخالدي من أوائل الشعراء الذين رفضوا وقاوموا نتائج حرب احتلال الجنوب، فعقب الحرب مباشرة، وفيما كان يتجول مع أصدقائه في كريتر، عز عليه (عسكرة) مدينته عدن وهو يشاهد جحافل العسكر والمدنيين القادمين المدججين بالسلاح عقب الاجتياح المشؤم صيف 94م يعبثون بأمنها ويتجولون بالرشاشات في شارعه الأثير (السوق الطويل) الذي لم يألف مثل هذه المناظر الغريبة التي تتعارض مع قيم المجتمع المدني الحضاري الذي تمثله مدينته عدن.. فذكَّر هؤلاء العابثين بأمن وطمأنينة عدن والجنوب كيف كانوا فيما مضى يدخلون بسلام آمنين بعد أن يتركون (جنابيهم) خلفهم في كرش وديعة حتى عودتهم إياباً.. لا أن يدخلوها مدججين بالسلاح ويعبثوا بأمنها وطمأنينتها كما كان حالهم بعد نصرهم الموهوم.. يقول الخالدي في زوامله التي نظمها عقب حرب 1994م منتقداً تلك السلوكيات الغريبة:
طالت سُبُلْكُمْ يا الفروخ المُنْتَهِشْ
واصبح لكم داخل عدن قاله وقِيْل
كُنتم تحطُّون الجنابي في كرش
واليوم رشاشات بالسوق الطويل
ثم اختتم تلك الأبيات في وصيته التي وجهها لشعب الجنوب :
إيَّاك يا شعب الجنوب أن ترتبش
شُفها مراحل مثلما عابر سبيل
ما حَدْ بها دائم على حِيْلِهْ وغَشْ
لَوَّل رحل وآخر مُراعي للرحيل
ما أروع هذه الكلمات المجلجلة والمدوية التي خرجت من فم هذا العملاق في وقت مبكر كان فيه شعبنا يلملم جراحه ومعاناته من هول الصدمة الكارثية التي حلت به.. إنها نبوءة تجلت فيها فراسة شاعر رأى في (نصرهم) المزعوم حينها هزيمة قادمة لا محالة، وشبهه بسحابة صيف عابرة.. ستزول حتماً لأن ما بُني على الغش والحيلة والاحتيال مصيره الزوال، مهما طال به المآل..
وله الكثير من القصائد التي الهبت حماس الجماهير وأججت النضال السلمي لشعبنا الجنوبي ، ففي قصيدته الشهيرة (مَنْ ذَلّ شل الفسالة) في 4/9/1996م يقول:
الخالدي قال شائف
من ذل شل الفساله
والعافيه من بغاها
ما با تجي بالسهاله
وحق بعده مطالب
ذي با يواصل نضاله
ما يُعتبر حق ضائع
غطَّت عليه الجَواله
من حَطّ مثقال ذرَّهْ
من رأسماله حَلاله
لا تحسبه شي قبيلي
ولا تثق في مقاله
عز القبيلي سلاحه
في حين تُعْرَضْ وطاله
والحُر وقت النوائب
من صان عرضه وماله
يا ذي على نار قاعد
لا عاد تسهن ظلاله
ما با يظَّلك من الحَوْمْ
ظلال مولى الجلاله
وعافيه من على يد
مسئول قاطع حباله
ما با تجي لك هدِّيه
ولا هِبِهْ أو حَواله
العنف بالعنف أفضل
والذِّل ما لك وما له
من يجهلك لا تهابه
وما صِفِي له مجاله
وخُذ حسابك وعادك
عامل بسُوق العَماله
من قبل تُحرم وتصبح
مُرغم على الاستقاله
هل ما ترى أيَّام شهرك
هلَّت وهلَّت لياله
والصبر لو طال حَدَّه
يصبح صعيب احتماله
إلى متى الصبر قل لي
من عقل أو مِنْ هَبَاله
يا ذي على القهر صابر
وحالتك خَسّ حاله
تشكي على مَن ولا مَن
باليوم تكتب رساله
شاكي على غير مُنصف
ما با يحصِّل عداله
ومن زوامله الساخرة التي قالها ، قبيل وفاته بشهرين عام 1998م ، حول أوضاع البلاد ونهب الأراضي في عدن:
قالوا عدن حُرَّه وانا قُول أهْجَعُوا
ما حُرَّه إلاَّ في عدن شُلّة عشيش
وأخوان ثابت ذي خذوها بارده
وذي تولوا عالمصانع والوريش
قالوا تقشَّف قلت ما شي فايده
مَتْقَشَّفوا مثلي كَبيرين الكَريش
داخل عدن ساكن وعاد الخوف بي
ما حد معي من شُلّتي قاده وجيش
قالوا جنُوبي قلت ليش التفرقه؟
قالوا انفصالي لا تقول الآن لَيْشْ
قُلنا أسف ما لو ثعالب غازيه
احتَلَّت أوكار النِّماره والهِرَيْشْ
ضاعت تقارين الوعول المرجبه
والشعب ضائع مثلما ضاعت حُنيش
واقروا على شعب الجنوب الفاتحه
لو ما حزمها عبدربه والقفيش
بل إنَّما صبري وصبرش يا عدن
لا فوق صبرش ذي صبرتي ما عليش
قلبي دليلي من قفا الضيق الفرج
ذي لي وذي لش با يقع حاضر وكَيْشْ
وما أحوجنا اليوم للتمسك بصرخة شاعرنا تلك..إياك يا شعب الجنوب أن ترتبش..فما ضاع حق وراءه مطالب.. وحق شعبنا بيِّنٌ واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.. وعليه أن يعض عليه بالنواجذ.. وأن يواصل نضاله حتى بلوغ هدفه المنشود المتمثل باستعادة دولته.