شارك الخبر
صالح مفتاح عبدالرب، لم يكن أسما عابرا في الذاكرة التي مرت بها أسماء ذهبت في غبار الأيام، لم يكن هذا الأكاديمي الأبيني المترع عشقا بالأدب ممن يذهب أسمه ويُطوى خبره..
أتيت إلى زنجبار لدراسة الدبلوم في اللغة العربية، وفي عتادي قراءات يسيرة في الأدب واللغة، قراءات بعضها يتجاوز مستوى طالب الثانوية المقتحم لأسفار أكاديمية بحتة إن عرف منها شيئا ندّت عنه أشياء، فلا يصرفه جهله، أو صعوبة مركبه عن متابعة القراءة، وخير ماخرج به أسئلة لم يستطع لحلها سبيلا، كانت ذاكرته غضة مطواعة، تسعفه إن استنجد بها استشهادا وتمثيلا.
جاء به القدر إلى كلية التربية أبين، ووجد فيها أساتيذ أجلاء، غير أن صالح مفتاح كان شيئا آخر،
أول ما قرع سمعه من أستاذه حديثه عن الأطلال، فبدأ بمعلقة امرئ القيس، وشرع يترنم بقراءتها بما لم يعتد الطالب على سماعه، فقد اعتاد على سماع قراءات يابسات للشعر يلقيها عليه من لايفرق بين قراءة الشعر وقراءة النثر، فبهره ما سمع، وخُيِّل إليه أنه لايسمع شعرا فحسب، بل يسمع ويذوق ويشم، وأن أستاذه ليلتذُّ بقراءة ما يقرأ تنغيمًا وتجويدًا، وحركة، حتى ليكاد يُقبِّل لوح الكتابة حين يُردِّد:
أمرُّ على الديار ديار ليلى
أُقبِّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا
وما حُبُّ الديار شغفن قلبي
ولكن حبُّ من سكن الديارا
وينداح مع معلقة امرئ القيس الثانية:
ألا انعم صباحا أيُّها الطلل البالي
وهل ينعمن من كان في العُصُر الخالي
وهل ينعمن إلا سعيدٌ
قليل الهموم لا يبيت بأوجال
ولك أن تتخيل كيف يقرأ هذه القافية الذلول تطويحا وتطويلا، معقِّبا بقراءة التصريع الوسطي في القصيدة عينها:
ديار لسلمى عافيات بذي خال
ألحَّ عليها كلُّ أسحمَ هطّال
فتتداعى معك صورة شاعر العربية الأكبر في استجلاب الذكرى واستدعائها حضورا لا غيابا بالالتفات البديع بالفعل المضارع:
وتحسب سلمى لاتزال ترى طلا
من الوحش او بيضا بميثاء محلال
وتحسب سلمى لاتزال كعهدنا
بوادي الخُزامى او على رَسِّ أوعالِ
كان ذلك مما وعته الذاكرة، ولم تفلته، وقد مرّ عليه ثلاثة وثلاثون عاما.
كان مفتاح التعارف مع مفتاح سؤال عروضي ظل يلحُّ سنوات منذ قرأت تاريخ الأدب العربي لحنا فاخوري، والكتاب كان مقررا لطلاب الثانوية في لبنان، وهو من خير ما كُتب في تاريخ الأدب العربي منهجا تعليميا مشوِّقا، كنت أقف عند بيت امرئ القيس في المعلقة الأولى:
وأن شفائي عبرة مهراقة
فهل عند رسم دارس من مُعوِّل.
فأقرأ (مهراقة) بتسكين الهاء، فيقف الطويل، وينكسر الوزن، ولا أجد لهذا تفسيرا، فألوذ برواية أخرى للبيت، هي:
وأن شفائي عبرة لو سفحتها عند أبي زيد في الجمهرة، وإن سفحتها عند الأعلم الشنتمري في شرح في شرح الشعراء الستة،
فأركن إليها هربا مما لم أجد حلًّا، وكلتا القراءتين تجري على الطويل خببا، وقد كانت القراءة حرونا مع الأولى!
وقرأ مفتاح البيت، فتبلَّج الصبح لذي عينين، قرأها فحرّك الهاء فتحا (مُهَرَاقة)، لم أكد أسمع القراءة حتى أجريت القلم تقطيعا على البيت فإذا هو:
فعولُ مفاعيلن فعول مفاعلن
فانتظمت صورة من صور الطويل، سألته، أبسكون الهاء نقرؤها أم بفتحه؟ نظر إلي وكتبها على اللوح وقطَّعها ساكنة الهاء، فظهر له كسر البيت، قال: بل بفتحه، وقد أجاد واصاب رحمة الله عليه، وكان هذا السؤال المبارك جالبا اهتمام الأستاذ بتلميذه، حتى لقد أهدى إلي كتاب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه لسيد قطب) ومازلت محتفظا به إلى يوم الناس هذا.
هكذا ظل مفتاح مفتاحا للعلم، والفنِّ والذوق.
أسبغ الله عليه رحماته، وقلَّبه في جناته، اللهم آمين
سعيد العوادي